الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ويقال: ضَرَبْتُ في الأَرْضِ ضَرْبًا، ومَضْرِبًا، أي: سرتُ.
والثاني: أنها لابتداء الغاية، والمعنى أنَّ محسبة الجاهل غناهم، نشأت من تعفُّفهم؛ لأنه لا يحسب غناهم غنى تعففٍ، إنما يحسبه غنى مالٍ، فقد نشأت محسبته من تفُّفهم، وهذا على أنَّ تعفُّفهم تعففٌ تام.والثالث: أنها لبيان الجنس، وإليه نحا ابن عطية، قال: يكون التعففُ داخلًا في المحسبة، أي: إنه لا يظهر لهم سؤالٌ، بل هو قليلٌ، فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عنه، فمِنْ لبيان الجنس على هذا التأويل.قال أبو حيَّان: وليس ما قالَه مِنْ أنَّ مِنْ هذه في هذا المعنى وهو أن تتقدَّر مِنْ بموصولٍ، وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف؛ كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] يصح أن يقال: الذي هو الأوثان، ولو قلت هنا: {يَحْسَبُهُم الجَاهِلُ أغنياء الَّذِي هُوَ التَّعفف} لم يصحَّ هذا التقدير؛ وكأنه سمَّى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس، أي: بيَّنت بأيِّ جنسٍ وقع غناهم، أي: غناهم بالتعفف لا غنى بالمال، فسمَّى مِنْ الداخلة على ما يبيِّن جهة الغنى ببيان الجنس، وليس المصطلح عليه كما قدَّمناه، وهذا المعنى يؤول إلى أنَّ مِنْ سببية، لكنها تتعلق بأغنياء، لا بيحسبهم. انتهى.وتتعلَّق مِنْ على الوجهين الأولين بيحسبهم. قال أبو البقاء رحمه الله: ولا يجوزُ أن تتعلَّق بمعنى أغْنِياء؛ لأنَّ المعنى يصير إلى ضد المقصود، وذلك أنَّ معنى الآية: أنَّ حالهم يخفى على الجاهل بهم؛ فيظنُّهم أغنياء، ولو علِّقت بأغنياء، صار المعنى، أنَّ الجاهل يظنُّ أنهم أغنياء، ولكن بالتعفف، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ من المال. انتهى، وما قاله أبو البقاء يحتمل بحثًا.وأما على الوجه الثالث- وهو كونه لبيان الجنس- فقد صرَّح أبو حيان بتعلُّقها بأغنياء؛ لأن المعنى يعود إليه، ولا يجوز تعلُّقها في هذا الوجه بالحسبان، وعلى الجملة: فكونها لبيان الجنس، قلق المعنى.قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافًا} في نصبه إلحافًا ثلاثة أوجه:أحدها: نصبه على المصدر بفعلٍ مقدَّر، أي: يلحفون إلحافًا، والجملة المقدرة حالٌ من فاعل يَسْألون.والثاني: أن يكون مفعولًا من أجله، أي: لا يسألون؛ لأجل الإلحاف.والثالث: أن يكون مصدرًا في موضع الحال، تقديره: لا يسألون ملحفين. اهـ. بتصرف.
والفقراءُ الموصوفون في الآية الأُولى يقابلهم أَصحاب الجِدَة، ومن ليس محصَرًا في سبيل الله، ومن لم يكتم فقرًا وضعفًا. فمقابلهم أَكثر من مقابل الصّنف الثانى. والصّنف الثانى يقابل أَصحاب الجِدَة، ويدخل فيهم المتعفِّف وغيره، والمحصَر وغيره. والصَّنف الثالث لا مقابل لهم، بل الله وحده الغنىّ وكلُّ ما سواه فقير إِليه.ومراد المشايخ بالفقر شئ أَخصُّ من هذه كلّها وهو الافتقار إِلى الله في كلِّ حالة. وهذا المعنى أَجلّ من أَن يسمَّى فقرًا، بل هو حقيقة العبوديَّة ولُبّها، وعَزْل النفس عن مزاحمة الرُّبوبيَّة.وسئل عنه يحيى بن مُعَاذ الرازىّ فقال: حقيقته أَلاَّ يستغنى إِلاَّ بالله، ورَسْمه عدم الأَسباب كلّها. وقال بعض المشايخ: الفقر سرّ لا يضعه الله إِلاَّ عند من يحبّه، ويسوقه إِلى مَن يريد. وقال: رُوَيم: إِرسال النَّفس في أَحكام الله. وسئل أَبو حفص بم يقدَم الفقير على ربِّه؟ فقال: ما للفقير أَن يقدَم به على ربّه سوى فقره. وسئل بعضهم: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ قال إِذا لمّ يبق عليه منه بقيّة. فقيل له: وكيف ذاك؟ فقال: إِذا كان له فليس له، وإِذا لم يكن له فهو له. وهذه من أَحسن العبارات عن معنى الفقر الذي يشير إِليه القوم، وهو أَن يصير كلُّه لله لا يبقى عليه بقيَّة من نفسه وحظِّه وهواه، فمن بقى عليه شئ من أَحكام نفسه ففقره مدخول. ثم فسّر ذلك أي قوله: إِذا كان له فليس له، أي إِذا كان لنفسه فليس لله، وإِذا لم يكن لنفسه فهو لله. فحقيقة الفقر إِذًا أَلاَّ تكون لنفسك ولا يكون لها منك شئ بحيث تكون كلُّك لله. وهذا الفقر الذي يشيرون إِليه لا ينافيه الجدَة ولا الأَملاك، فقد كان رُسُل الله وأَنبياؤه- صَلوات الله وسلامه علَيهم- في ذروة الفقر مع جدتهم ومِلكهم، كإِبراهيم الخليل عليه السَّلام كان أَبا الضِّيفان، وكانت له الأَموال والمواشى، وكذلك كان سليمان وداود، وكذلك كان نبيّنا صلَّى الله عليه وسلَّم كما قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}، وكانوا أَغنياءَ في فقرهم، فقراءَ في غناهم.فالفقر الحقيقىُّ: دوام الافتقار إِلى الله تعالى في كلِّ حال، وأَن يشهد العبد في كلِّ ذرّة من ذرَّاته الظَّاهرة والباطنة فاقة نامية إِلى الله تعالى من كلِّ وجه. فالفقر ذاتىّ للعبد، وإِنما يتجدَّد له بشهوده حالًا، وإِلاَّ فهو حقيقته؛ كما قال بعض المشايخ: وله آثار وعلامات وموجِبات، أَكثر إِشارات القوم إليها، كقول بعضهم الفقير لا يسبق همَّته، أي ابن وقته، فهمَّته مقصورة على وقته لا يتعدَّاه. وقيل: أَركان الفقر أَربعة: عِلْم يسوسه، وورع يحجزه، ويقين يحمله، وذِكْر يؤنسه. وقال الشِّبلِىّ: حقيقة الفقر أَلاَّ يستغنى بشئ دون الله. وسئل سهل: متى يستريح الفقير؟ فقال: إِذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه. وقال أَبو حفص: أَحسن ما يتوسَّل به العبد إِلى الله دوام الافتقار إِليه على جميع الأَحوال، وملازمة السُنَّة في جميع الأَفعال، وطلب القُوت من وجه حلال. وقيل: مِن حكم الفقير أَلاَّ يكون له رغبة، فإِن كان ولابد فلا يجوز رغبتُه كفايتَه. وقيل: الفقِير من لا يَملك ولا يُمْلَك. وأَتمّ من هذا: لا يَملك ولا يملكه مالك. وقيل: من أَراد الفقر لشرفه مات فقيرًا، ومن أَراده لئلا يشتغل عن الله بغيره مات غنيّا.والفقر له بداية ونهاية، فبدايته الذلُّ ونهايته العزّ، وظاهره العُدْم وباطنه الغِنى، كما قال رجل لآخر، الفقر فقر وذلّ، فقال، لا: بل فقر وعِزّ. فقال: فقر وثرًى. فقال: لا، بل فقر وعَرْش. وكلاهما مصيب.واتَّفقت كلمةُ القوم على أَن دوام الافتقار إِلى الله مع تخليط خير من دوام الصَّفاء مع رؤية النَّفس والعُجْب، مع أَنه لا صفاءَ معهما.وإِذا عرفت معنى الفقر عرفت عين الغنى بالله تعالى فلا معنى لسؤال من سأَل: أي الحالين أَكمل؟ الافتقار إِلى الله أَم الاستغناء به؟ هذه مسأَلة غير صحيحة، فإِنَّ الاستغناء به هو عين الافتقار إِليه.وأَمَّا مسأَلة الفقير الصَّابر، والغنىّ الشاكر، وترجيحُ أَحدهما، فعند المحقِّقين أَن التفضيل لا يرجع إِلى ذات الفقْر والغِنَى، وإِنما يرجع إِلى الأَعمال والأَحوال والحقائِق. فالمسْأَلة فاسدة في نفسها، وإِنَّ التفضيل عند الله بالتَّقوى وحقائِق الإِيمان، لا بفقر ولا غِنى، قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولم يقل: أَفقركم أَو أَغناكم.ثمّ اعلم أَنَّ الفَقْر والغِنَى ابتلاء لعبده كما قال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ} أي ليس كلّ من أَعطيتهُ ووسَّعت عليه فقد أَكرمته،،لا كلُّ من ضيَّقت عليه وقَتَرت عليه الرزق فقد أَهنته والإِكرام أَن يكرم العبد بطاعته ومحبَّته ومعرفته، والإِهانة أَن يسلبه ذلك. ولا يقع التفاضل بالغنى والفقر بل بالتقوى. وقال بعضهم: هذه المسأَلة محال أَيضًا من وجه آخر، وهو أَنَّ كًّلا من الغنىّ والفقير لابد له من صبر وشكر، فإِنَّ الإِيمان نصفان: نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر. بل قد يكون قسط الغنِىّ من الصَّبر أَوفى، لأَنه يصبر عن قدرة، فصبره أَتمّ من صبر من يصبر عن عجز، ويكون شكر الفقير أَتمّ، لأَن الشكر هو استفراغ الوسع في طاعة الله، والفقير أَعظم فراغا بالشكر من الغنِىّ. وكلاهما لا يقوم قائمة إِيمانه إِلا على ساق الصَّبر والشكر.نعم الذي رجع الناس إِليه في المسأَلة أَنَّهم ذكروا نوعا من الشكر، ونوعا من الصَّبر، وأَخذوا في التَّرجيح، فجردوا غنيًّا مُنفقًا متصدِّقًا باذلا ماله في وجوه القُرَب، شاكرًا الله عليه؛ وفقيرا متفرِّغًا لطاعة الله ولأوراد العبادات، صابرًا على فقره، هل هو أَكمل من ذلك الغنى أَم بالعكس. فالصَّواب في مثل هذا أَنّ أَكملهما أَطوعهما، فإِن تساوت طاعتهما درجتهما والله أَعلم.والعرب نقول: سَدً الله مَفاقِره، أي وجوه فقره. ويقال: افتقر فهو مفتقِر وفقير، ولا يكاد يقال: فَقُر. وإِن كان القياس يقتضيه.وأَصل الفقير هو المكسور الفَقَار. عَمِل به الفاقرةَ أي الدَّاهية التي كسرت فَقَاره. وأَفقرك الصَّيدُ: أَمكنك عن فقاره. أَفْقَرته ناقتى: أَعرته فَقَارها للركوب، وما أَحسن قول الزَّمخشرى: وما أَحسن فِقَر كلامه، أي نُكته، وهى في الأَصل حُلِىّ تصاغ على شكل فِقَر الظهر. اهـ.
|